الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ والسفر إلى البقاع المعظمة هو من جنس الحج، ولكل أمة حج، فالمشركون من العرب كانوا يحجون إلى اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وغير ذلك من الأوثان؛ ولهذا لما قال الحبر الذي بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم لأمية بن أبي الصلت: إنه قد أظل زمان نبي يبعث، وهو من بيت يحجه العرب. فقال أمية: نحن معشر ثقيف، فينا بيت يحجه العرب، فقال الحبر: إنه ليس منكم، إنه من إخوانكم من قريش. فأخبر أمية أن العرب كانت تحج إلى اللات. وقد ذكر طائفة من السلف أن هذا كان رجلا يلت السويق للحاج ويطعمهم إياه، فلما مات عكفوا على قبره وصار وثنًا يحج إليه، ويصلى له، ويدعي من دون الله، وقرأ جماعة من السلف: ((أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَّ))، بتشديد التاء، وكانت اللات لأهل الطائف، والعزى لأهل مكة، ومَنَاة لأهل المدينة؛ ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد، لما جعل يرتجز فقال: أعل هُبَل./ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوه؟) قالوا: وما نقول؟ قال:( قولوا: الله أعلى وأجل). فقال أبو سفيان: إنا لنا العزى ولا عزي لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوه؟). قالوا: وما نقول؟ قال: (قولوا: الله مولانا ولا مولي لكم). والمشركون في هذه الأزمان ـ من الهند وغيرهم ـ يحجون إلى آلهتهم كما يحجون إلى سمناة وغيره من آلهتهم. وكذلك النصاري يحجون إلى قمامة وبيت لحم، ويحجون إلى القونة التي بصيدنايا، والقونة: الصورة وغير ذلك من كنائسهم التي بها الصور التي يعظمونها ويدعونها ويستشفعون بها. وقد ذكر العلماء من أهل التفسير والسير وغيرهم أن أبرهة ملك الحبشة، الذي ساق الفيل إلى مكة ليهدمها، حين استولت الحبشة على اليمن وقهروا العرب. ثم بعد هذا وفد سيف بن ذي يزن فاستنجد كسري ملك الفرس، فأنجده بجيش حتى أخرج الحبشة عنها ـ وهو ممن بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم. وكانت آية الفيل التي أظهر الله تعالى بها حرمة الكعبة لما أرسل عليهم الطير الأبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، أي جماعات متفرقة، والحجارة من سجيل طين قد استحجر، وكان عام مولد النبي صلى الله عليه وسلم. وهو من دلائل نبوته، وأعلام رسالته، ودلائل شريعته. والبيت الذي لا يحج ولا يصلى إليه إلا هو وأمته. قالوا: كان أبرهة قد بني كنيسة بأرض اليمن، وأراد أن يصرف حج العرب إليها، فدخل رجل من العرب فأحدث في الكنيسة، فغضب / لذلك أبرهة، وسافر إلى الكعبة ليهدمها، حتى جري ما جري. قال تعالى: وكذلك في حديث أبي سفيان لما اجتمع بأمية بن أبي الصلت الثقفي، وذكر عن عالم من علماء النصاري أنه أخبره بقرب نبي يبعث من العرب، قال أمية: قلت: نحن من العرب. قال: إنه من أهل بيت يحجه العرب. قال: فقلت: نحن معشر ثقيف، فينا بيت يحجه العرب. / قال:إنه ليس منكم، إنه من إخوانكم قريش، كما تقدم. وثقيف كان فيهم اللات المذكورة في القرآن في قوله تعالى: قال عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا قَبيصة، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: قلت: ولا منافاة بين القولين والقراءتين، فإنه كان رجل يلت السويق على حجر، وعكفوا على قبره، وسموه بهذا الاسم، وخففوه، وقصدوا أن يقولوا هو الإله، كما كانوا يسمون الأصنام آلهة، فاجتمع في الاسم هذا وهذا. وكانت [اللات] لأهل الطائف، وكانوا يسمونها [الربة]. و[العزى] لأهل مكة. ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد: إن لنا العزى ولاعزي لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوه؟). فقالوا: ما نقول؟ قال: (قولوا: الله مولانا ولا مولي لكم) الحديث، وقد تقدم. وكانت مناة لأهل المدينة. فكل مدينة من مدائن أهل الحجاز كان لها طاغوت تحج إليه وتتخذه شفيعًا وتعبده. وما ذكره بعض المفسرين من أن [العزى] كانت لغطفان فذلك لأن غطفان كانت تعبدها وهي في جهتها. وأهل مكة يحجون إليها، / فإن العزى كانت ببطن نخلة من ناحية عرفات. ومعلوم بالنقول الصحيحة أن أهل مكة كانوا يعبدون العزى. كما علم بالتواتر أن أهل الطائف كان لهم اللات، ومناة كانت حذو قدَيد، وكان أهل المدينة يهلون لها، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها. وأما ما ذكره مَعْمَر بن المثني من أن هذه الثلاثة كانت أصناماً في جوف الكعبة من حجارة، فهو باطل باتفاق أهل العلم بهذا الشأن، وإنما كان في الكعبة [هُبَل] الذي ارتجز له أبو سفيان يوم أحد وقال: أعل هبل أعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوه؟). قالوا: وما نقول؟ قال: (قولوا: الله أعلى وأجل). كما تقدم ذكره. هذا وكان إساف ونائلة على الصفا والمروة، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، وهذه الأسماء الثلاثة مؤنثة: اللات، والعزى، ومناة. وبكل حال فقد قال أمية بن أبي الصلت: فينا بيت يحجه العرب، وأبو سفيان يوافقه على ذلك. فدل ذلك على أن البقاع التي يسافر إليها والسفر إليها حج، والحج نسك، وهو حج إلى غير بيت الله ونسك لغير الله، كما أن الدعاء لها صلاة لغير الله وقد قال تعالى: فإذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتفاق الأئمة الأربعة، بل قد نهي عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تتخذ قبورهم مساجد، وأوثانًا، وأعيادًا ويشرك بها، وتدعي من دون الله؟! حتى إن كثيرًا من معظميها يفضل الحج إليها على الحج إلى بيت الله، فيجعل الشرك وعبادة الأوثان أفضل من التوحيد وعبادة الرحمن، كما يفعل ذلك من يفعله من المشركين، وقال تعالى: وقد قيل: الإناث هي الموات. وعن الحسن: كل شيء لا روح فيه كالخشب والحجر فهو إناث. قال الزجاج: والموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث. فتقول في ذلك: الأحجار تعجبني، والدراهم تنفعك وليس ذلك مختصًا بالموات، بل كل ما سوي الله تعالى يجمع بلفظ التأنيث، فيقال: الملائكة، ويقال لما يعبد من ودن الله: آلهة. قال تعالى: وأيضًا، فالذين يعبدون الملائكة أو الأنبياء لا يرونهم، وإنما يعبدون تماثيل صوروها على مثال صورهم، وهي من تراب وحجر وخشب، فهم يعبدون الموات. وفي الصحيح ـ صحيح مسـلم ـ عـن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبـي طالب ـ رضـي الله عنه ـ: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعثني ألا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرًا مشـرفاً إلا سـويته. وقال تعالى: وأما قوله تعالى: وأما اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فلما قال تعالى: وهذا كما ضرب لهم مثلاً فقال تعالى: والنكتة أن الله أجل وأعظم وأعلى وأكبر من كل شيء، وهم قد جعلوا لله ما لا يرضونه لأنفسهم. وهذا يتناول كل من وصف الله بصفة ينزه عنها المخلوق، كالذين قالوا: إنه فقير، وإنه بخيل. والذين قالوا: إنه لا يوصف إلا بالسلوب، أو لا يوصف لا بسلب ولا إثبات. والذين جعلوا بعض المخلوقات ممثالة له في شيء من الأشياء في عبادة له أو دعاء له أو توكل عليه أو حبها مثل حبه، والذين قالوا: يفعل لا لحكمة، بل عبثًا. والذين قالوا: إنه يجوز أن يضع الأشياء في غير مواضعها، فيعاقب خيار الناس، ويكرم شرارهم. والذين قالوا: لا يقدر أن يتكلم بمشيئته. والذين قالوا: إنه لا يسمع ولا يبصر. والذين قالوا: إنه يجوز أن يحب غيره كما يحب هو ويدعي ويسأل، فجعلوا مملوكه ندًا له. ونظائر ذلك كثيرة. /والقرآن ملآن من توحيد الله تعالى، وأنه ليس كمثله شيء. فلا يمثل به شيء من المخلوقات في شيء من الأشياء؛ إذ ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا فيما يستحقه من العبادة والمحبة والتوكل والطاعة والدعاء وسائر حقوقه. قال تعالى: /وهذا الذي ذكرنا من أن السفر إلى الأماكن المعظمة ـ القبور وغيرها ـ عند أصحابه كالحج عند المسلمين هو أمر معروف عند المتقدمين والمتأخرين لفظًا ومعني، فإنهم يقصدون من دعاء المخلوق والخضوع له والتضرع إليه نظير ما يقصده المسلمون من دعاء الله تعالى والخضوع له والتضرع إليه، لكن كما قال تعالى: فلما كان المشركون يصلون ويدعون المخلوق ويحجون إلى قبره، قال تعالى: والصلاة تتناول الدعاء الذي هو بمعني العبادة، والذي هو بمعني السؤال. فالصلاة تجمع هذا وهذا، قال تعالى: وهذا ونحوه يعرف من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، وسنة خلفائه الراشدين، وما كان عليه الصحابة من بعده، والتابعون لهم بإحسان، وما ذكره أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم. ولهذا لا يقدر أحد أن ينقل عن إمام من أئمة المسلمين أنه يستحب السفر إلى زيارة قبر نبي أو رجل صالح. ومن نقل ذلك فليخرج نقله. وإذا كان الأمر كذلك وليس في الفتيا إلا ما ذكره أئمة المسلمين وعلماؤهم، فالمخالف، لذلك مخالف لدين المسلمين وشرعهم، ولسنة نبيهم، وسـنة خلفائه الراشدين، ولما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، من توحيده وعبادته وحده لا شريك له، وأنه إنما يعبد بما شرعه من واجب ومستحب، لا يعبد بما نهي عنه ولم يشرعه. والله ـ سبحانه ـ بعث محمداً بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفي بالله شهيدًا. فبعثه بدين الإسلام الذي بعث به جميع الأنبياء، فإن الدين عند الله الإسلام، / وأما من اتبع دينًا مبدلاً ما شرعه الله، أو دينًا منسوخاً، فهذا قد خرج عن دين الإسلام، كإليهود الذين بدلوا التوراة وكذبوا المسيح ـ عليه السلام ـ ثم كذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم. والنصاري الذين بدلوا الإنجيل وكذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء ليسوا على/ دين الإسلام الذي كان عليه الأنبياء، بل هم مخالفون لهم فيما كذبوا به من الحق وابتدعوه من الباطل. وكذلك كل مبتدع خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذب ببعض ما جاء به من الحق، وابتدع من الباطل ما لم تشرعه الرسل. فالرسول بريء مما ابتدعه وخالفه فيه، قال تعالى: ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين، لا نبي بعده. وأمته خير أمة أخرجت للناس. وقد بعثه الله بأفضل الكتب وأفضل الشرائع، وأكمل له ولأمته الدين. وأتم عليه النعمة. ورضي لهم الإسلام دينًا. وهو قد دعا إلى الصراط المستقيم، كما قال تعالى: وهو صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى بين الدين، وأوضح السبيل، وقال: (تركتم على البيضاء النقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت من شيء يقربكم من الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به)، وقال (إنه من يَعِشْ منكم بعدي فسيري اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). قال الترمذي: حديث صحيح. / ولهذا كان أئمة المسلمين لا يتكلمون في الدين بأن هذا واجب أو مستحب أو حرام أو مباح إلا بدليل شرعي من الكتاب أو السنة، وما دل عليه. والدين كله مأخوذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد بعده أن يغير من دينه شيئًا. هذا دين المسلمين، بخلاف النصاري فإنهم يجوزون لعلمائهم وعبادهم أن يشرعوا شرعًا يخالف شرع الله، قال تعالى: وقد اتفق أئمة الدين على أنه يشرع السفر إلى المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصي، بخلاف غير هذه الثلاثة؛ لأن في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصي). / وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهي أولاً عن زيارة القبور باتفاق العلماء. فقيل: لأن ذلك يفضي إلى الشرك. وقيل: لأجل النياحة عندها. وقيل: لأنهم كانوا يتفاخرون بها. وقد ذكر طائفة من العلماء في قوله تعالى: والمقصود أن العلماء متفقون على أنه كان نهي عن زيارة القبور. ونهي عن الانتباذ في الدُّبَّاء والحَنْتَم والمُزَفَّت والمقير. واختلفوا هل نسخ ذلك؟ فقالت طائفة: لم ينسخ ذلك؛ لأن أحاديث النسخ ليست مشهورة. ولهذا لم يخرج أبو عبد الله البخاري ما فيه نسخ عام. وقال الآخرون: بل نسخ ذلك. ثم قالت طائفة منهم: إنما نسخ إلى الإباحة، فزيارة القبور مباحة لا مستحبة. وهذا قول في مذهب مالك وأحمد. قالوا: لأن صيغة افعل بعد الحظر إنما تفيد الإباحة. كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا ولا تشربوا مسكرًا). وروي (فزوروها، ولا تقولوا هجرًا). وهذا يدل على أن النهي كان لما كان يقال عندها من الأقوال المنكرة سدًا للذريعة، كالنهي عن الانتباذ في الأوعية أولاً؛ لأن الشدة المطربة تدب فيها ولا يدري بذلك، فيشرب الشارب الخمر وهو لا يدري. وقال الأكثرون: زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء للموتي مع /السلام عليهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع فيدعو لهم. وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه خرج إلى شهداء أُحد فصلى عليهم صلاته على الموتي كالمودع للأحياء والأموات.وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين. وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم). وهذا في زيارة قبور المؤمنين. وأما زيارة قبر الكافر فرخص فيها لأجل تذكار الآخرة، ولا يجوز الاستغفار لهم. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه زار قبر أمه فبكي وأبكي من حوله. وقال: (استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة). والعلماء المتنازعون كل منهم يحتج بدليل شرعي، ويكون عند بعضهم من العلم ما ليس عند الآخر ـ فإن العلماء ورثة الأنبياء ـ وقال تعالى: /والأقوال الثلاثة صحيحة باعتبار؛ فإن الزيارة إذا تضمنت أمرًا محرمًا، من شرك، أو كذب، أو ندب، أو نياحة وقول هجر، فهي محرمة بالإجماع، كزيارة المشركين بالله والساخطين لحكم الله، فإن هؤلاء زيارتهم محرمة، فإنه لا يقبل دين إلا دين الإسلام. وهو الاستسلام لخلقه وأمره. فيسلم لما قدره وقضاه، ويسلم لما يأمر به ويحبه. وهذا نفعله وندعو إليه، وذاكم نسلمه ونتوكل فيه عليه. فنرضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا. ونقول في صلاتنا: والنوع الثاني: زيارة القبور لمجرد الحزن على الميت، لقرابته أو صداقته، فهذه مباحة كما يباح البكاء على الميت بلا ندب ولا نياحة. كما زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكي وأبكي من حوله، وقال: (زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة). فهذه الزيارة كان نهي عنها لما كانوا يفعلون من المنكر، فلما عرفوا الإسلام أذن فيها، لأن فيها مصلحة، وهو تذكر الموت. فكثير من الناس إذا رأي قريبه وهو /مقبور ذكر الموت واستعد للآخرة، وقد يحصل منه جزع، فيتعارض الأمران. ونفس الحزن مباح، إن قصد به طاعة كان طاعة، وإن عمل معصية كان معصية. والنوع الثالث: فهو زيارتها للدعاء لها كالصلاة على الجنازة، فهذا هو المستحب الذي دلت السنة على استحبابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وكان يعلم أصحابه ما يقولون إذا زاروا القبور. وأما زيارة قباء، فيستحب لمن أتي المدينة أن يأتي قباء فيصلى في مسجدها. وكذلك يستحب له عند الجمهور أن يأتي البقيع وشهداء أحد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فزيارة القبور للدعاء للميت من جنس الصلاة على الجنائز يقصد فيها الدعاء لهم، لا يقصد فيها أن يدعو مخلوقًا من دون الله، ولا يجوز أن تتخذ مساجد، ولا تقصد لكون الدعاء عندها أو بها أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت. والصلاة على الجنائز أفضل باتفاق المسلمين من الدعاء للموتي عند قبورهم. وهذا مشروع بل فرض على الكفاية متواتر متفق عليه بين المسلمين. ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به، كان هذا شركًا محرمًا بإجماع المسلمين. ولو ندبه وناح لكان ـ أيضًا ـ محرمًا، وهو دون الأول. فمن احتج بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع ولأهل / أحد على الزيارة التي يفعلها أهل الشرك وأهل النياحة فهو أعظم ضلالا ممن يحتج بصلاتهم على الجنازة، على أنه يجوز أن يشرك بالميت، ويدعي من دون الله، ويندب ويناح عليه، كما يفعل ذلك بعض الناس يستدل بهذا الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ـ وهو عبادة لله وطاعة له يثاب عليه الفاعل وينتفع به المدعو له ويرضي به الرب عز وجل ـ على أنه يجوز أن يفعل ما هو شرك بالله وإيذاء للميت وظلم من العبد لنفسه، كزيارة المشركين وأهل الجزع الذين لا يخلصون لله الدين، ولا يسلمون لما حكم به ـ سبحانه وتعالى. فكل زيارة تتضمن فعل ما نهي عنه وترك ما أمر به ـ كالتي تتضمن الجزع وقول الهجر وترك الصبر، أو تتضمن الشرك ودعاء غير الله وترك إخلاص الدين لله ـ فهي منهي عنها. وهذه الثانية أعظم إثمًا من الأولي. ولا يجوز أن يصلى إليها، بل ولا عندها، بل ذلك مما نهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها). رواه مسلم في صحيحه. فزيارة القبور على وجهين: وجه نهي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق العلماء على أنه غير مشروع، وهو أن نتخذها مساجد ونتخذها وثنًا ونتخذها عيدًا، فلا يجوز أن تقصد للصلاة الشرعية، ولا أن تعبد كما تعبد الأوثان، ولا أن تتخذ عيدًا يجتمع إليها في وقت / معين كما يجتمع المسلمون في عرفة ومني. وأما [الزيارة الشرعية] فهي مستحبة عند الأكثرين. وقيل: مباحة. وقيل: كلها منهي عنها كما تقدم. والذي تدل عليه الأدلة الشرعية أن نحمل المطلق من كلام العلماء على المقيد، ونفصل الزيارة إلى ثلاثة أنواع: منهي عنه، ومباح، ومستحب وهو الصواب. قال مالك وغيره: لا نأتي إلا هذه الآثار: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد قباء، وأهل البقيع، وأحد. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد إلا هذين المسجدين وهاتين المقبرتين، كان يصلى يوم الجمعة في مسجده، ويوم السبت يذهب إلى قباء، كما في الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا فيصلى فيه ركعتين. وأما أحاديث النهي فكثيرة مشهورة في الصحيحين وغيرهما، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله إليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدًا. رواه البخاري ومسلم. وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس: (إن مـن كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس / ـ رضي الله عنهم ـ قالوا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها فقال وهو كذلك: (لعنة الله على إليهود والنصاري، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يحذر ما صنعوا. وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قاتل الله إليهود والنصاري، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وفي لفظ: (لعن الله إليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وفي الصحيحين عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة فيها تصاوير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). وعائشة ـ رضي الله عنها ـ أم المؤمنين صاحبة الحجرة النبوية ـ قد روت أحاديث هذا الباب مع مشاركة غيرها من الصحابة كابن عباس وأبي هريرة وجندب وابن مسعود وغيرهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد). رواه أبو حاتم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده. وفي سنن أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني). وفي موطأ مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد / غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وفي سنن سعيد بن منصور: أن عبد الله بن حسن بن حسين بن على بن أبي طالب ـ أحد الأشراف الحسنيين بل أجلهم قدرًا في عصر تابعي التابعين في خلافة المنصور وغيره ـ رأي رجلا يكثر الاختلاف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني). فما أنت ورجل بالأندلس إلا سواء. فلما أراد الأئمة اتباع سنته في زيارة قبره المكرم والسلام عليه طلبوا ما يعتمدون عليه من سـنته.فاعتمد الإمام أحمد على الحديث الذي في السنن عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام). وعن أحمد أخذ ذلك أبو داود، فلم يذكر في زيارة قبره المكرم غير هذا الحديث، وترجم عليه [باب زيارة القبر]. مع أن دلالة الحديث على المقصود فيها نزاع وتفصيل، فإنه لا يدل على كل ما تسميه الناس [زيارة] باتفاق المسلمين. ويبقي الكلام المذكور فيه: هل هو السلام عند القبر كما كان من دخل على عائشة ـ رضي الله عنها ـ يسلم عليه؟ أو يتناول هذا والسلام عليه من خارج الحجرة. فالذين استدلوا به جعلوه متناولا لهذا وهذا، /وهو غاية ما كان عندهم في هذا الباب عنه صلى الله عليه وسلم. وهو صلى الله عليه وسلم يسمع السلام من القريب، وتبلغه الملائكة الصلاة والسلام عليه من البعيد، كما في النسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتى السلام). وفي السنن عن أوس بن أوس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة على). قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء). صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا. وذكر مالك في موطئه أن عبد الله بن عمر كان يأتي فيقول: السـلام عليك يا رسـول الله، السـلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت. ثم ينصرف. وفي رواية: كان إذا قدم من سفر. رواه معمر عن نافع عنه. وعلى هذا اعتمد مالك ـ رحمه الله ـ فيما يفعل عند الحجرة؛ إذ لم يكن عنده إلا أثر ابن عمر ـ رضي الله عنهما. وأما ما زاد على ذلك مثل الوقوف للدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم، مع كثرة الصلاة والسلام عليه، فقد كرهه مالك، وقال: هو بدعة لم يفعلها السلف. ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. وأما السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين فهذا لم يكن موجودًا في الإسلام في زمن مالك، وإنما حدث هذا بعد القرون الثلاثة. قرن /الصحابة والتابعين وتابعيهم. فأما هذه القرون التي أثني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن هذا ظاهرًا فيها، ولكن بعدها ظهر الإفك والشرك. ولهذا لما سأل سائل لمالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إن كان أراد المسجد فليأته وليصل فيه، وإن كان أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذي جاء: (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد). وكذلك من يزور قبور الأنبياء والصالحين ليدعوهم، أو يطلب منهم الدعاء، أو يقصد الدعاء عندهم لكونه أقرب إجابة في ظنه، فهذا لم يكن يعرف على عهد مالك، لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره. وإذا كان مالك ـ رحمه الله ـ يكره أن يطيل الرجل الوقوف عنده صلى الله عليه وسلم للدعاء، فكيف بمن لا يقصد لا السلام عليه ولا الدعاء له، وإنما يقصد دعاءه وطلب حوائجه منه، ويرفع صوته عنده فيؤذي الرسول، ويشرك بالله، ويظلم نفسه؟! ولم يعتمد الأئمة، لا الأربعة ولا غير الأربعة على شيء من الأحاديث التي يرويها بعض الناس في ذلك. مثل ما يروون أنه قال: (من زارني في مماتي فكأنما زارني في حياتي)، ومن قوله: (من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة) ونحو ذلك. فإن هذا لم يروه أحد من أئمة المسلمين، ولم يعتمد عليها. ولم يروها لا أهل الصحاح ولا أهل السنن التي يعتمد / عليها كأبي داود والنسائي؛ لأنها ضعيفة، بل موضوعة، كما قد بين العلماء الكلام عليها. ومن زاره في حياته صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين إليه، والواحد بعدهم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. وهو إذا أتي بالفرائض لا يكون مثل الصحابة فيكف يكون مثلهم بالنوافل، أو بما ليس بقربة، أو بما هو منهي عنه هنا. وكره مالك ـ رضي الله عنه ـ أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. كره هذا اللفظ؛ لأن السنة لم تأت به في قبره. وقد ذكروا في تعليل ذلك وجوهًا. ورخص غيره في هذا اللفظ للأحاديث العامة في زيارة القبور. ومالك يستحب ما يستحبه سائر العلماء من السفر إلى المدينة والصلاة في مسجده، وكذلك السلام عليه وعلى صاحبيه عند قبورهم اتباعًا لابن عمر. ومالك من أعلم الناس بهذا؛ لأنه قد رأي التابعين الذين رأوا الصحابة بالمدينة. ولهذا كان يستحب اتباع السلف في ذلك. ويكره أن يبتدع أحد هناك بدعة. فكره أن يطيل الرجل القيام والدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ما كانوا يفعلون ذلك. وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك. قال مالك ـ رحمة الله عليه ـ: ولن / يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، بل كانوا يأتون إلى مسجده فيصلون فيه خلف أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلى ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ فإن هؤلاء الأربعة صلوا أئمة في مسجده والمسلمون يصلون خلفهم كما كانوا يصلون خلفه، وهم يقولون في الصلاة: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. كما كانوا يقولون ذلك في حياته. ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا. ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم بأن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل وهي المشروعة. وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك أو الصلاة والدعاء، فإنه لم يشرعه لهم، بل نهاهم، وقال: (لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا على حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني)، فبين أن الصلاة تصل إليه من البعيد، وكذلك السلام. ومن صلى عليه مرة
|